وثيقة مسربة: السعودية كانت على بُعد خطوة من التطبيع العلني مقابل فتات سياسي

كشفت وثيقة مسربة حول ما سُمّي بـ“العنصر الفلسطيني في اتفاق التطبيع” بين الولايات المتحدة والسعودية، تفاصيل خطيرة تُظهر أن الرياض كانت قاب قوسين أو أدنى من فتح بوابة التطبيع العلني مع الاحتلال الإسرائيلي في صيف 2023، مقابل ما وصفه التقرير بـ“تنازلات متواضعة نسبيًا”.
وتظهر الوثيقة التي أوردتها صحيفة (تايمز أوف إسرائيل) العبرية حدة الانحراف السياسي غير المسبوق من جانب السعودية، وخضوع صريح لإملاءات المشروع الأمريكي–الإسرائيلي في المنطقة، دون أي مقابل ذي قيمة للفلسطينيين.
فالتنازلات التي كانت السعودية مستعدة لقبولها من إسرائيل لا تتجاوز حدود إجراءات شكلية، هدفها تجميل اتفاق تطبيع كان معدًّا مسبقًا، وليس تحسين واقع الشعب الفلسطيني.
فوفق التقرير، تضمنت الوثيقة مجرد: تحويل أجزاء من المنطقة (ج) إلى المنطقة (ب)، وتحويل أجزاء من المنطقة (ب) إلى المنطقة (أ).
وهذه الخطوات ليست “تنازلات”، بل عمليات مناورة بيروقراطية داخل نظام السيطرة العسكرية الإسرائيلية على الضفة الغربية، لن تغيّر شيئًا على الأرض.
فالمنطقة (ج) – التي تشكل أكثر من 60% من مساحة الضفة – هي قلب الاستيطان والموارد والأمن الإسرائيلي، وأي تغيير رمزي في تصنيف بعض المناطق لن يحدّ من الزحف الاستيطاني، ولن يقلّص من صلاحيات الجيش الإسرائيلي.
ويكشف قبول السعودية بهذا المستوى الهزيل من “المطالب الفلسطينية” حجم الهبوط في سقف خطابها السياسي، وتحولها من دولة كانت ترفع لواء “المبادرة العربية” إلى دولة تقبل بتطبيع كامل مقابل تعديلات لا تكلف إسرائيل شيئًا.
التواطؤ الأمريكي… وإعداد الوثيقة في الغرف المغلقة
الوثيقة صاغتها واشنطن بالتنسيق المباشر مع الرياض، ما يشير إلى أن الولايات المتحدة كانت ترى في السعودية الحلقة المركزية لإنجاح مشروع إعادة هندسة الشرق الأوسط.
ورغم وجود “فجوة” بين واشنطن والرياض حول التوقيت المناسب للاعتراف بالدولة الفلسطينية، كما يقول التقرير، إلا أن ذلك لم يمنع الطرفين من الوصول إلى تفاهمات متقدمة.
بل وصل الأمر إلى أن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بدأ فعليًا التخطيط لزيارة “إسرائيل” أوائل أكتوبر 2023 حاملاً الوثيقة المبرمجة. وهذا يوضح أن الطريق كان ممهدًا، وأن السعودية – بعكس ما تحاول إظهاره في الإعلام – كانت مستعدة للمضي نحو التطبيع بدون الحصول على أي ضمانات فعلية للفلسطينيين.
إسرائيل كانت “مرتاحة” للغاية للوثيقة
كشف التقرير أن إسرائيل كانت على اطّلاع على التفاصيل أولًا بأول، وأنها كانت “مرتاحة بما يكفي” لما يتضمنه الاتفاق، وهذا بحد ذاته دليل على هشاشة المطالب السعودية. فلو كانت الرياض تطلب شيئًا مؤثرًا، لما أبدى الاحتلال هذا القدر من الارتياح.
والأخطر أن هناك توقعًا بأن يقوم نتنياهو بإضافة تعديلاته الخاصة، لتأجيل إقامة الدولة الفلسطينية إلى أجل غير مسمى أو نسف الفكرة تمامًا. أي أن إسرائيل كانت تستعد للحصول على التطبيع السعودي مع ضمان شطب أي احتمال لدولة فلسطينية مستقلة.
ومع ذلك، استمرت السعودية في السير داخل المسار الأمريكي، دون اعتراض جوهري، ودون أن تلوّح حتى بالانسحاب من المفاوضات.
لحظة 7 أكتوبر… انهيار المخطط
تغير كل شيء في اللحظة التي أطلقت فيها حماس عملية السابع من أكتوبر، التي قلبت أجندة بلينكن رأسًا على عقب، ودمرت عمليًا مشروع التطبيع الثلاثي الذي كان في مراحله الأخيرة.
فالهجوم لم يكن مجرد حدث أمني بالنسبة لإسرائيل، بل ضربة سياسية أصابت واشنطن والرياض أيضًا. فقد تحوّل جدول الأعمال الأمريكي من “جلب توقيع سعودي على ورقة التطبيع” إلى “إدارة واحدة من أعقد الحروب في تاريخ المنطقة”.
ومع اندلاع الحرب، لم يعد ممكنًا للرياض مواصلة السير في الطريق ذاته؛ إذ تحوّل التطبيع إلى قضية مشتعلة، وانكشف للرأي العام حجم التنازلات التي كانت المملكة مستعدة لتقديمها.
سعودية جديدة… أم سعودية بلا بوصلة؟
تظهر الوثيقة أن الرياض – قبل حرب غزة – كانت تتجه بالفعل للعب دور “الدولة المركزية” في الاستراتيجية الأمريكية شرق الأوسطيّة، ولو على حساب القضية الفلسطينية.
فقد كانت المملكة تبحث عن صفقة كبرى مع واشنطن: ضمانات أمنية، منشآت نووية مدنية، وتعزيز المكانة الإقليمية… وكل ذلك مقابل تطبيع مجاني تقريبًا مع الاحتلال.
والخطورة هنا ليست في فكرة التطبيع ذاتها، بل في كيفية إدارة السعودية للملف في ظل غياب الرؤية السياسية، والرضوخ للإطار الأمريكي، والقبول بمطالب شكلية، والأبرز تجاهل الواقع الفلسطيني تمامًا.
ورغم أن حرب غزة عطلت هذا المسار، إلا أن الوثيقة تظلّ شهادة تاريخية على تراجع الموقف السعودي، وعلى استعداد الرياض لتمرير اتفاق كان سيُنظر إليه – فلسطينياً وعربياً – بوصفه أحد أسوأ أشكال التخلي عن الحقوق الوطنية.




