قال تحقيق نشرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إن الإصلاح والقمع يسيران جنبا إلى جنب في المملكة وأن أغلب ما يجري يمكن الإشارة إليه باعتباره ضربا من ضروب إلهاء الشعب للتغطية على انتهاكات النظام.
وأشار التحقيق الذي أعده الكاتب سباستيان أشر إلى اكتظاظ مدرجات استاد كرة القدم في الرياض بالمشجعين الذين خلعوا أجزاء من أرديتهم وأخذوا يلوّحون بها بحماس في الهواء.
واندمجت مجموعة من النساء السعوديات في المدرجات في ذلك المشهد، وتحولت أغطية رؤوسهن إلى أعلام سوداء.
وكانت المباراة الودية بين البرازيل والأرجنتين هي الأولى التي أشهدها في المملكة منذ أكثر من عشرين عاما، وقت أنْ كانت المدرجات تغص برجال يعتمرون غترات يمتزج فيها اللونان الأحمر والأبيض، ويلبسون جلابيب بيضاء زاهية، دون أن تلمح وسط هذين اللونين عباءة نسائية سوداء واحدة.
تلك الأيام كانت خلالها الرياض مدينة منغلقة على ذاتها، لا يجد فيها الزائر ترحيبا سوى من أنوار المحال التجارية.
وكان الزائر للرياض في تلك الآونة يحبس أنفاسه تماما كالغاطس في بركة مياه راكدة. وكان على المغتربين أن يظلوا غاطسين طوال الوقت لا يظهرون بروؤسهم على السطح إلا عَرَضا في العطلات الرسمية والمهرجانات.
وكان التسوّق يقطعه أذان الصلاة، فتغلق المحال التجارية خشية الشرطة الدينية أو ما يُعرف بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي يجوب رجالها الشوارع بلا انقطاع ويلقون القبض على كل مَن يخالف القواعد.
وكان الشباب السعوديون يشعرون بالسجن وراء جدران عالية منصوبة حول منازلهم، ولم يكونوا ينتقلون من مكان مغلق إلا إلى نظيره لزيارة أقارب أو أصدقاء.
لكن هذه الرياض قد ولّى زمانها حسب التحقيق إذ “تغيّر وجه مدينة الرياض بعد فتح الساحات العامة واختفاء الشرطة الدينية من مظاهر الحياة اليومية”.
وهذه شابةٌ أحد أبويها سعودي، اختارت تعريفها بأنها شخصية مؤثرة وتعمل في مجال تصميم الأزياء، تحكي كَم كانت الرياض مدينة محظورة عليها ذات يوم.
أما الآن، وفي ظل وتيرة التغيير، فإن هذه الشابة عندما تعود إلى الرياض تشعر بأنها أكثر محافظة وتقيُّدا من صديقاتها المقيمات في ذات المدينة طوال الوقت.
وهي ترى أن لحظة حصول السعوديات على حق قيادة السيارة، العام الماضي، كانت لحظة فارقة – رغم عدم حصولها على رخصة بعد.
وتضيف أن صديقاتها السعوديات الآن يشعرن بالثقة في أنفسهن على نحو يضعهن على قدم المساواة مع الرجال.
لمْ أُثر قضية الناشطات السعوديات الأربع السجينات، والسبع اللاتي أُفرج عنهن بكفالة ممن ناضلن لسنواتٍ للحصول على حقوقهن ويخضعن لمحاكمة يواجهن فيها اتهاما بالإضرار بالأمن السعودي، ويصفهن الإعلام المحلي بالخيانة.
إن محاكمتهن تمثل لطخة في ثوب السعودية الجديد، لكنها لا تنفي حدوث تغيير حقيقي.
وهنا تكمن المفارقة، فبعض ما يجري يمكن الإشارة إليه باعتباره ضربا من ضروب إلهاء الشعب.
وتشهد مدينة الرياض، على مدى شهرين، برامج ترفيهية متعددة، تشمل عروضا سينمائية ومسرحيات وحفلات موسيقية.
وعندما كنت هناك، لوّح مُغنّي راب أمريكي بحمّالة صدر إحدى مشاهِدات العرض من الجمهور الحاضر بعد أن كانت قد رمته بها على المسرح ليجد الفيديو انتشارا واسعا على الإنترنت.
وعلى غرار لندن، وجدت في الرياض “أرض العجائب الشتوية” (وينتر واندرلاند)، وكل ما يمت بصلة لاحتفالات الكريسماس.
وثمة ضاحية تُدعى بوليفارد الرياض، تجتذب آلاف الزائرين كل ليلة.
وهناك إعلانات عن كثير من مشاهير المطربين العرب على طول الطريق الرئيسي، حيث شابّات سعوديات محجبّات يوقفن المارة ويعرضن عليهم العطور، وهذه امرأة منتقبة تعزف البيانو، بينما يلعب آخر على آلة الجيتار إلى جوار شاحنات الطعام.
وثمة عشرات المطاعم حيث يختلط الرجال بالنساء دونما قيود، ويمكنهم وهم جالسون في أماكنهم مشاهدة عرض فني بسيط على ضفاف بحيرة صناعية كل ساعة.
ولم يكن أيّ من عناصر هذا المشهد، قبل أربع أو خمس سنوات، مسموحاً به في المملكة بأيدي شيوخ دينيين بدأت سطوتهم تتراجع بعض الشيء بأوامر من محمد بن سلمان.
العديد من هؤلاء الشيوخ الآن طُرحوا في السجون، نتيجة قمع محمد بن سلمان.
وبينما كنت في الرياض، كان أحد أكبر مساجدها حافلاً بالمصلين في جنازة أحد أولئك الشيوخ ممن تقول جماعة حقوقية سعودية إن وفاته وقعت جرّاء سوء المعاملة في السجن.
وقبل أيام قلائل، اهتزت الأجواء الاحتفالية في الرياض بحادث طعنٍ في أحد العروض الفنية حيث أصيب العديد من الفنانين الأجانب بجروح.
ويقول مساعدون ومستشارون لمحمد بن سلمان إن العالم حريٌّ بدعم جهود ولي العهد، في وجْه محاولات قوى الماضي أن تعود إلى المشهد.
وكنت قبل عام في الرياض لتغطية مقتل الصحفي جمال خاشقجي على أيدي عملاء سعوديين في قنصلية المملكة العربية السعودية في اسطنبول، ووصف محرر صحفي سعودي القصة بأنها خيال نادر من التفاصيل الوحشية العصيّة على التصديق، انقلب إلى واقع.
والآن، خبا أثر واقعة خاشقجي مع تواتر ظهور شخصيات أجنبية رفيعة المستوى في السعودية دونما خجل.
لكنّ ما اتسمت به الواقعة من رعب لا يزال يؤثر على صورة النظام السعودي الجديد لدى كثير من دول العالم، رغم قناعة كُثر من الشباب السعودي بشعور جديد بالفخر بالهوية الوطنية.