التخبط في إدارة المشاريع العملاقة: غياب المساءلة يكشف حدود “رؤية 2030”

تعيش السعودية لحظة فارقة تكشف بوضوح حجم التخبط في إدارة مشاريع “رؤية 2030”، بعد اعتراف رسمي نادر من وزير المالية محمد الجدعان بإمكانية إلغاء مشاريع عملاقة كانت تُسوّق للعالم باعتبارها “أيقونات المستقبل”.

ويشير هذا الاعتراف، الذي نقلته وكالة بلومبيرغ، إلى أزمة هيكلية في التخطيط الاقتصادي والحوكمة داخل المملكة، في ظل غياب تام لأي مساءلة شعبية أو برلمانية تسمح بمراجعة أداء السلطة التنفيذية أو محاسبتها على الهدر الهائل الذي رافق هذه المشاريع منذ إطلاقها.

ففي إحاطة إعلامية بالرياض، بدا الجدعان وكأنه يحاول التخفيف من وقع التراجع، قائلاً: “ليس لدينا أي غرور… سنعدل أو نُسرّع أو نؤجل أو نُلغي أي مشروع دون تردد.”

هذه الجملة وحدها كافية لإعادة صياغة المشهد كله. فالمشاريع التي كانت تُقدَّم في الإعلام السعودي كجزء من رؤية ثابتة ومُحكمة، باتت الآن قابلة للإلغاء، بما في ذلك مشاريع ضخمة مثل:

مشروع The Line: المدينة الخطية بطول 170 كم التي يُفترض أن تستوعب 9 ملايين نسمة.

مشروع Trojena: المنطقة الجبلية التي تقود ملف استضافة الألعاب الشتوية 2029.

مشاريع فرعية في نيوم كان النظام يعتبرها واجهة المستقبل السعودي.

وكشفت بلومبيرغ أن هذه المشاريع باتت خاضعة لـ “مراجعة استراتيجية” تهدف لتقييم الجدوى، وهي عبارة تُستخدم عادة عندما تكون المشاريع في مأزق مالي أو إداري.

من التوسع إلى التراجع: أين الخلل؟

على مدى سنوات، ضخت السعودية عشرات المليارات في مشاريع عملاقة دون وجود تقييم مستقل أو رقابة برلمانية أو مشاركة مجتمعية في اتخاذ القرار. كل شيء كان يُدار عبر هرم ضيق يتركّز في صندوق الاستثمارات العامة وفي الدائرة المحيطة بولي العهد محمد بن سلمان.

وجعلت هذه المركزية المُطلقة المشاريع تتحرك بسرعة، لكنها في الوقت نفسه افتقرت إلى دراسات جدوى متماسكة وآليات محاسبة ورقابة مالية مستقلة وشفافية في العقود والإنفاق إلى جانب آليات قياس المخاطر.

والنتيجة، كما تقول بلومبيرغ: تعثّر، تقليص، مراجعة، ثم احتمال إلغاء.

إعادة معايرة أم إعادة تراجع؟

يقول الجدعان إن الحكومة تقوم بـ “إعادة معايرة” للمشاريع لضمان كفاءة الإنفاق. لكن تفسيره لكفاءة الإنفاق يكشف جوهر الأزمة:

“كفاءة الإنفاق لا تعني خفض الإنفاق، بل تقليل الإنفاق على بعض البنود لزيادته على بنود أخرى.”

بمعنى آخر، لا حديث عن ترشيد حقيقي، بل عملية نقل للأموال داخل النظام نفسه، دون مراجعة كيفية اتخاذ القرارات الأصلية أو تقييم ما إذا كانت المشاريع بنيت على أسس اقتصادية واقعية.

إعادة المعايرة شملت جمع بيانات من الجهات الحكومية حول احتياجاتها التمويلية ثم اتخاذ قرار بشأن المشاريع الأكثر ارتباطًا بـ “التنويع الاقتصادي”.

لكن هذا المنهج يعكس أيضًا غياب الرؤية طويلة المدى، خاصة أن هذه البيانات تُجمع بعد إطلاق المشاريع وليس قبلها، ما يكشف خللًا جوهريًا في عملية التخطيط.

صندوق الاستثمارات العامة: لاعب بلا محاسبة

عندما سئل الوزير عما إذا كان الإلغاء سيشمل مشاريع نيوم، قال إن القرار يعود إلى صندوق الاستثمارات العامة. هذا الصندوق، الذي يُعد أهم أداة محمد بن سلمان في إعادة تشكيل الاقتصاد، لا يخضع لرقابة برلمانية ولا لجهات تدقيق مستقلة، رغم أنه يدير مئات المليارات من أموال الدولة.

وتؤكد تصريحات الجدعان أن الصندوق بدوره يقوم بـ “إعادة ترتيب الأولويات”، في مؤشر إلى أن مشاريع كبرى ربما أصبحت عبئًا ماليًا أو على وشك التوقف.

وتعليق رئيس لجنة العضويات في حزب التجمع الوطني، أحمد حكمي، جاء معبّرًا عن شعور قطاع واسع من السعوديين: “يعني عشر سنوات من الهدر المالي لمقدرات الشعب… من يحاسبكم؟ البطالة المتفاقمة وصعوبة تملك السكن ليست إلا نتائج لهذه الإدارة الفاشلة.”

ففي الوقت الذي تُضخ فيه مليارات الدولارات في مشاريع مستقبلية عملاقة—بعضها لا يزال على الورق—تعيش المملكة أعلى معدلات بطالة بين الشباب في الخليج وأزمة إسكان متفاقمة مع تراجع القوة الشرائية وارتفاع الضرائب فضلا عن غياب الشفافية حول أين تذهب الأموال.

رغم ذلك، لا وجود لأي مؤسسة قادرة على مساءلة الحكومة أو مراجعة قراراتها. لا برلمان منتخب، ولا قضاء مستقل، ولا إعلام حر، ولا مجال للمجتمع المدني لتقييم جدوى هذه المشاريع.

رؤية بلا محاسبة… مصيرها التراجع

قد لا يكون التراجع عن بعض مشاريع “رؤية 2030” مفاجئًا للخبراء، الذين حذروا منذ البداية من طابعها الدعائي والمبالغ فيه، ومن غياب الدراسات الفنية. لكن المفاجئ هو الاعتراف الرسمي بعد سنوات من الترويج والتضخيم والإنفاق واسع النطاق.

فاليوم، تقف السعودية أمام مفترق طرق إما إصلاح بنيوي يشمل الشفافية والمحاسبة أو استمرار نهج المشاريع الضخمة التي تستهلك الموارد ثم تنتهي إلى التقليص أو الإلغاء.

وفي ظل غياب مساءلة شعبية أو برلمانية، يبدو أن التخبّط سيظل السمة الأبرز لإدارة المشاريع العملاقة في المملكة، وأن ثمن هذا الهدر سيدفعه المواطن الذي يعاني في الإسكان والعمل والضرائب، بينما المشاريع المستقبلية تتبخر واحدة تلو الأخرى في صحراء نيوم.