يشكل نهج الانكفاء عن قضية فلسطين الذي تبناه وكرسه على مدار سنوات بشكل تدريجي ولي العهد محمد بن سلمان المزيد من التراجع الإقليمي المستمر لمكانة السعودية.
ويجمع مراقبون على أن محمد بن سلمان قزم مكانة المملكة وأضعف دورها تجاه القضية الفلسطينية وهو رغم أنه يمثل خذلانًا لشعبها، فإنه أدّى قبل ذلك لإضعاف المملكة نفسها بتحجيم دورها وانكفائها عن ممارسة ثقلها في المنطقة، وفسح المجال لدول أخرى لتبوّء مقعدها.
ومنذ نكبة عام 1948، كانت المملكة في طليعة الدول التي أخذت على عاتقها نصرة فلسطين وشعبها.
حيث فتح الملك عبد العزيز باب التطوّع للجـهاد إبان النكبة وأرسل فرقة كاملة من الجيش السعودي قوامها 8300 شاركت في عدة جبهات في غزة ومحيطها، فضلًا عن تدفّق مساعدات المال والسلاح لفلسطين.
ولم تخلُ حروب 1956 و1967 و1973 من دور سعوديّ فعال، حيث شارك الجيش السعودي في دعم الجيوش العربية ضد الاحتلال.
كما شهدت حرب 1973 الموقف الأقوى بقطع النفط عن حلفاء الاحتلال والتسبّب بأزمة عالمية ساهمت بتغيير مسار الحرب، فيما كانت دبلوماسية المملكة نشطة جدًا عربيًا ودوليًا تلك الفترة.
ومن المواقف التي سطّرها التاريخ وغابت عن أذهان الأجيال، ما فعلته المملكة بعد تجرّؤ السادات على توقيع أول اتفاقية تطبيع مع الاحتلال في كامب ديفيد عام 1978.
إذ قطعت المملكة علاقاتها الدبلوماسية مع مصر لـ 9 سنوات متتالية حتى عام 1987 ووصفت السادات بأنه “خان الدول العربية”.
ورغم غياب صور الدعم العسكري وانخفاض مستوى التأثير الدبلوماسي بعد مطلع الألفية الثالثة، إلا أن دور المملكة بقي متوازنًا وداعمًا لفلسطين خصوصًا في حروب غزة الأخيرة مع الاحتلال.
فبقيت حاضنة للفصائل والتيارات الفلسطينية، وإحدى مقاصد المجتمع الدولي لإيقاف فتيل الحرب عند اشتعالها.
وفي عهد الملك سلمان الذي تطوّع بنفسه للقتال ضد الاحتلال في حرب 1956 عند العدوان على مصر، كان الاستقبال الأخير لقادة المقــاومة في 2015، حيث استضافهم الملك سلمان وبحضور ولي عهده محمد بن نايف وولي ولي في حينه محمد بن سلمان، لتبدأ بعدها مرحلة انحدار شديد في العلاقات.
إذ اتسمت مرحلة محمد بن سلمان بتلاشي التأثير السعودي في مسار القضية الفلسطينية لعدة أسباب:
* توجّهات الأمير الشاب للتطبيع مع الاحتلال
* التقاطع مع المقاومة الفلسطينية وتوجهاتها بل واعتقال عدد من قادتها في المملكة
* ابتعاد التوجهات السياسية للمملكة عن قضايا العرب والمسلمين.
ومع اندلاع معركة طوفان الأقصى وما صاحبها من حرب هي الأعنف على غزة، تجلّى ضعف الدور السياسي للمملكة فخلت عاصمتها من استقبال قادة العالم الذين كانوا يقصدونها مع كل حرب، وغاب ولي العهد أو خارجيته عن لعب دور مؤثر، وكانت سياسة المملكة إطلاق التصريحات الرسمية وبيانات التنديد كل فترة.
صحيح أن المملكة استضافت القمة العربية الإسلامية لبحث تداعيات حرب غزة، ولكنها لم تأت بجديد خلا تنديدات وتوصيات ومطالبات.
بل شكّل موقف ولي العهد صدمة كبيرة بعد رفضه إضافة بنود للبيان الختامي، كان من الممكن أن تشكّل ضغوطًا على الاحتلال وحلفائه وتساهم بتخفيف الضغط عن غزة ومقاومتها.
وفيما كان حكام دول الجوار يبذلون جهودًا حثيثة لوقف إطلاق النار في غزة والتباحث عن آليات إدخال المساعدات لأهلها كان ولي العهد منشغلًا بحضور حفل افتتاح بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية.
واقتصاديًا، تراجع دعم المملكة كثيرًا، فرغم إطلاق حملة تبرعات لغزة تجاوزت 600 مليون ريال (160 مليون $) معظمها من المواطنين، إلا أن الرقم قليل مقارنة بالتبرعات السابقة:
1 مليار دولار في 2008 و500 مليون دولار في 2014، بينما تبرّعت الحكومة بـ 400 مليون دولار لأوكرانيا قبل عامين.
وتشير عدد من مراكز البحوث الغربية لمحاولة تقديم ولي العهد للعب دور أكبر في الوساطات والمفاوضات وإحلاله محل الدوحة، لأنه الأقرب لتبني رؤيتهم والتعاطف مع الاحتلال!
بينما يطرح البعض أن تلعب المملكة دورًا أكبر داخل غزة في حال القضاء على حmاس يمكن الولوج له من بوابة إعادة الإعمار!
وقد كان يمكن للسعودية أن تنتهز حرب غزة لإعادة تصدير نفسها للمشهد، خصوصًا أنها تملك أكثر من ورقة بدءً بثقلها السياسي مرورًا بتأثيرها الاقتصادي وانتهاءً بمكانتها العربية والإسلامية والعالمية التي تؤهلها لوضع بصمتها، حتى وإن سلّمنا براغماتيًا بتوجهات ولي العهد المتقاطعة مع المقاومة.
لكن محمد بن سلمان اختار تهميش المملكة والانشغال بقضايا جانبية، ما أفقد المملكة ثقلها وقبل ذلك ثقة الشعوب العربية والإسلامية بقيادتها الحالية.
فهل يُدرك ولي العهد أن الاحتلال الذي يسعى للتطبيع معه هو أول المستفيدين من هذا الضعف السعودي وأن السعودية وفلسطين هما أول المتضرّرين؟