
أعاد ظهور صور ووثائق مرتبطة بزيارة المتحرّش الجنسي المدان جيفري إبستين إلى السعودية عام 2016، ولقاءاته اللاحقة بولي العهد محمد بن سلمان، فتح ملف شديد الحساسية حول طبيعة العلاقة التي جمعت الطرفين، وما إذا كانت السلطات السعودية على علم بالخلفية الجنائية الخطيرة لإبستين عندما استضافته، في وقت كان يُسجَّل فيه رسميًا كمعتدٍ جنسي على قاصرات في الولايات المتحدة.
وتتعلق القضية بسلسلة أحداث موثقة زمنيًا، تبدأ بتحقيقات جنائية مبكرة ضد إبستين، وتنتهي بتبادل هدايا ورسائل، وظهور اسمه في سياق زيارات رفيعة المستوى لولي العهد السعودي في أوروبا.
وقد بدأت أولى التحقيقات مع جيفري إبستين في مارس/آذار 2005، بعد بلاغ تقدمت به عائلة فتاة تبلغ من العمر 14 عامًا للشرطة في بالم بيتش بولاية فلوريدا، أفادت بتعرض ابنتها للتحرش داخل قصر إبستين.
وتوالت لاحقًا شهادات عشرات الفتيات القاصرات، أكدن أن إبستين استأجرهن تحت غطاء “التدليك”، قبل أن يتحول الأمر إلى اعتداءات جنسية ممنهجة.
وفي يوليو/تموز 2006، ألقي القبض على إبستين بتهمة “التماس الدعارة”، وهي تهمة اعتُبرت مخففة بشكل مثير للجدل قياسًا بحجم الشهادات، ما دفع شرطة بالم بيتش إلى اتهام الادعاء العام بمنحه معاملة تفضيلية. لاحقًا، دخل مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) على خط القضية.
وعام 2008، أقرّ إبستين بذنبه في تهم تتعلق باستدراج قاصرات لممارسة الدعارة، وصدر بحقه حكم بالسجن 18 شهرًا، سُجِّل بعدها رسميًا كمعتدٍ جنسي، ودفع تعويضات لعدد من الضحايا. إلا أن اتفاقًا سريًا مع الادعاء الفيدرالي جنّبه ملاحقات أوسع، وقضى معظم مدة سجنه ضمن برنامج عمل نهاري خارج السجن.
قانون “ميغان” والسفر الدولي
منذ فبراير/شباط 2016، أصبح إبستين خاضعًا لقانون “ميغان الدولي”، الذي يُلزم مرتكبي الجرائم الجنسية المسجلين بإبلاغ السلطات الأمريكية مسبقًا عن أي سفر دولي، على أن تقوم الولايات المتحدة بإخطار الحكومات الأجنبية بصفة المسافر الجنائية.
وبحسب “خدمة المارشالات الأمريكية”، فإن قرار السماح بالدخول أو الرفض يعود للدولة المستقبِلة، بعد تلقي الإخطار.
بمعنى آخر، فإن أي دولة استقبلت إبستين بعد هذا التاريخ يُفترض أنها كانت على علم بكونه مدانًا بجرائم جنسية ضد قاصرات.
زيارة الرياض: أسئلة بلا إجابات
في هذا السياق، تكشف وثائق طيران مسرّبة أن إبستين أقلع بطائرته الخاصة من طراز “غلف ستريم G550” من باريس إلى الرياض في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وبقي في السعودية يومين قبل عودته إلى فرنسا.
وجاءت الزيارة في وقت كان محمد بن سلمان يشغل منصب ولي ولي العهد، ويبلغ من العمر 31 عامًا.
والسؤال الجوهري هنا: من الذي سمح بدخول إبستين إلى المملكة؟ وهل كانت الجهات السيادية السعودية على علم بوضعه القانوني كمعتدٍ جنسي خاضع لإخطار دولي؟
أين التُقطت صورة ابن سلمان وإبستين؟
الصور المتداولة التي يُقال إنها تجمع إبستين بولي العهد السعودي لا تحمل توثيقًا رسميًا لمكان التقاطها. إلا أن أقرب حدث علني لابن سلمان في تلك الفترة كان في 8 نوفمبر 2016، حين استقبل في مكتبه رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية جوزيف دانفورد، وقلّده وسام الملك عبدالعزيز.
وما يعزز الشكوك بأن اللقاء – إن تم – كان في إطار مغلق، بعيدًا عن البروتوكولات المعلنة.
وفي ديسمبر 2016، كتب إبستين في رسالة إلكترونية إلى رجل الأعمال توم بريتسكر: “هل تصدّق أن مبس أرسل لي خيمة وسجادًا وما إلى ذلك؟”
والمنتج في وحدة تحقيقات CBS News، دانيال روتينيك، علّق على هذه الرسالة قائلاً: “ما الذي كان يفعله إبستين ليستحق هذه الهدية من محمد بن سلمان؟ هذا لا يزال لغزًا.”
اللوفر… ولقاء جديد؟
في أبريل/نيسان 2018، وخلال زيارة رسمية لابن سلمان إلى باريس، نشر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صورة تجمعه بولي العهد في متحف اللوفر.
في الوقت نفسه، كشفت وثائق أن إبستين كتب رسالة يشير فيها إلى أن “مبس حصل على متحف اللوفر لنفسه برفقة 400 حارس”، مضيفًا أنه في طريقه إلى هناك، في إشارة توحي بلقاء جديد أو اقتراب منه.
ولا توجد حتى الآن أدلة قانونية تثبت تورط محمد بن سلمان في جرائم إبستين، لكن الوقائع الزمنية، وسفر مدان جنسي دوليًا إلى السعودية، وتبادل الهدايا، وظهور اسمه في سياق زيارات خاصة، تطرح أسئلة مشروعة حول معايير التدقيق، وطبيعة العلاقات التي نسجها إبستين مع دوائر السلطة.
وفي زمن ترفع فيه الرياض شعار “الإصلاح” و”الانفتاح”، تبقى قضية إبستين اختبارًا صعبًا للشفافية، ليس فقط بشأن ما جرى، بل بشأن ما إذا كانت هناك إرادة حقيقية للإجابة عن سؤال بسيط لكنه خطير: كيف فُتحت أبواب السلطة أمام متحرّش بالأطفال مُدان دوليًا؟.