شكل موسم الحج على مدار أكثر من 1400 عام مكان تزاور واختلاط بين المذاهب والفرق الإسلامية والشعوب المختلفة، إذ تحول إقليم الحجاز (الذي يشمل المنطقتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة) بسبب تنوع الحجيج، إلى إقليم ثقافي متنوع يضم مختلف الأعراق والمذاهب الإسلامية.
لكنّ صورة الحج كموسم لتلاقي المسلمين على اختلاف فئاتهم ومذاهبهم تعرضت للتهديد بعد سيطرة الدولة السعودية على إقليم الحجاز ومحاولتها فرض صبغة دينية واحدة تتبع المدرسة الوهابية التي تحرّم الكثير من العقائد التي لدى الصوفية والشيعة وبقية الفرق الإسلامية.
تعود جذور محاولة الدولة السعودية فرض اعتقادها الديني الخاص وهو المذهب الوهابي والذي أنشأه المصلح الديني محمد بن عبد الوهاب، إلى الوقت الذي فرضت فيه الدولة السعودية الأولى عام 1805 هدم جميع قبور الصوفية ومقراتهم، كما هاجمت أيّ شخص يؤدي الحج على غير المذهب الوهابي، بل منعت الحجاج من بلاد الشام وإيران والعراق ومصر والمغرب من أداء فريضتهم، إلى حين سقوط تلك الدولة على يد محمد علي باشا عام 1818.
لكن الدولة السعودية الثالثة عادت للسيطرة على الأراضي المقدسة عام 1925 على يد مؤسسها الملك عبد العزيز آل سعود، إذ عادت سيطرة المتشددين من المذهب الوهابي على مراسم الحج.
وافتعل هؤلاء حادثة “المحمل المصري” بعدها بعام، حين اتجه المتشددون صوب الهودج الذي يحمل كسوة الكعبة السنوية في موسم الحج، ودمروه بسبب أصوات الموسيقى فيه، ثم تبادلوا إطلاق النار مع القوات المصرية التي تحمي المحمل.
واستمر رجال الدين الموالون للسعودية والذين يتبنون المذهب الوهابي في تعاليم الحج بفرض رؤيتهم على الحجاج سنوياً، إذ يتعرض الحجاج الآتون من إيران والعراق إلى التعنيف اللفظي والمنع من أداء شعائرهم والتي تنص على زيارة مقبرة البقيع وعدد آخر من قبور أهل بيت النبي محمد، في مكة والمدينة، بحجة أنّ زيارة القبور “بدعة” لا تجوز.
كذلك، تمنع سلطات آل سعود الفرق الصوفية التي تأتي من مصر وباكستان وبعض البلدان الإسلامية الأخرى من أداء بعض شعائرها الخاصة خلال فترة الحج، ومنها التجمهر وأداء الأناشيد الدينية في مدح النبي والصحابة، وتعتقلها السلطات الأمنية وتجبرها على كتابة تعهدات بعدم تكرار هذه الأمور التي تصفها بالمخلة بالدين والمخالفة لتعاليم الإسلام.
يروي محمد المطيري وهو مواطن سعودي سبق له العمل في حسبة الحج، بين عامي 1990 و2007 شهادته. تتألف مجموعات الحسبة من أشخاص متدينين يعملون في وظائف عادية داخل بلداتهم ومدنهم لكنّهم يتوجهون إلى الحج كلّ عام لأداء الحج ونصح الحجيج في ما يخص الدين، من دون أيّ صفة رسمية يملكونها.
وغالباً ما تتحول النصيحة التي يقدمها أولئك “المحتسبون” إلى شجار وخلاف مع الأشخاص الذين ينحدرون من بلدان وثقافات مختلفة ولا يفقهون اللغة العربية، ويستعين المحتسبون برجال الشرطة على الفور، فتبادر إلى نهر الأشخاص الذين تعرضوا للاحتساب أو تعتقلهم حتى بتهمة إثارة الفوضى والشغب، ثم يُفرج عنهم بعد ساعات.
يتابع المطيري “لم نكن نملك أي صفة رسمية، لكنّ رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الشرطة الدينية) يتعاونون معنا رفقة رجال الشرطة، لوقف الأعمال التي كنا نراها بدعة، وإحالة المتهمين بهذه البدعة إلى مراكز الشرطة لتخويفهم فقط”.
لكنّ المطيري فضّل الابتعاد عن المشهد لأنّه تبنى وجهة نظر أكثر انفتاحاً في الإسلام إذ يقول: “لقد كان صراعاً ثقافياً وليس دينياً، والدليل أنّنا كنا نحاول فرض رؤيتنا القاصرة حتى على أبناء وطننا المنحدرين من المناطق الأخرى والذين يلبسون نفس لبسنا ويتحدثون نفس حديثنا، وعند خروجي نصحت الكثير من أصدقائي بأنّ الاستمرار بهذه الطريقة والتعرض للناس في مواسم الحج سيؤديان إلى كارثة كبيرة جداً، لكنّ أحداً لم يستمع إليّ”.
في فبراير/ شباط عام 2009 كانت إجازة مدرسية في المملكة، وذهب كثيرون من المنتمين إلى المذهب الشيعي إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة لأداء مراسم العمرة، وجاء كثير من المحتسبين غير الرسميين إلى المناطق المقدسة لأداء العمرة أيضاً، لكنّ اعتداء بعض المحتسبين على الزوار الشيعة لمقبرة البقيع في المدينة المنورة، ووصفهم بالمبتدعة والخارجين عن الإسلام أدى لاشتعال أعمال شغب في المدينة المنورة قبل أن تسيطر قوات الأمن على الأوضاع وتحيل المتورطين إلى التحقيق.
حاولت سلطات آل سعود بعد أحداث البقيع أن تتبنى وجهة نظر أكثر انفتاحاً تجاه المذاهب الأخرى، إذ سمحت على مضض في العام التالي للشيعة بزيارة مقبرة البقيع، لكنّ القبضة الأمنية والرؤية المتشددة عادت مرة أخرى في العام التالي، إذ مارست هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دورها في منع الطقوس الدينية والثقافية المخالفة لتعاليم مذهبهم الوهابي المتشدد.
وفي مطلع عام 2016، أعلن الملك السعودي تنظيم عمل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتفريغها من محتواها وبالتالي إنهاء أعمالها بشكل نهائي ومنعها من النزول إلى الشوارع وممارسة صلاحياتها وفرض رؤيتها المتشددة على الآخرين.
لكنّ مواسم الحج الأخيرة كانت مليئة بالمتشددين الذين يحميهم رجال الشرطة في البلاد، إذ مُنع بعض الصوفية في حج عام 2018 من أداء طقوسهم الدينية والثقافية داخل مساكنهم في أحد الفنادق، فيما فُرض على الشيعة عدم زيارة المقابر إلاّ في أوقات محددة وضيقة، ومنعت النساء من زيارة أيّ قبر وهو ما يخالف التعاليم الدينية لكثير من المذاهب الإسلامية.
يقول أحمد ملا أحمد، وهو شيعي من البحرين، أدى مراسم الحج عام 2018 “أريد أن أوجه رسالة إلى السلطات السعودية التي تتسامح مع المسيحيين واليهود: تسامحوا قليلاً مع إخوانكم المسلمين الذين يحاولون أن يؤدوا طقوسهم بلا إيذاء أو ضغط أو تحقير”.
يضيف: “معاملة رجال الشرطة ممتازة ورائعة في كلّ شيء إلاّ في حال طلبنا أداء بعض الطقوس مثل زيارة المقابر أو تلاوة بعض الأدعية فإنّنا نُفاجأ إما بالمنع أو بنظرات التحقير المرتسمة على وجوه رجال الأمن”.